الاثنين، 16 يوليو 2012

من فقه أولويات المسلم في رمضان

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

فإن الوقت هو أغلى ما يتملكه الإنسان، وإدارة الوقت واغتنام الفرص هي ما يتميز به الإنسان الناجح، ومن السنن الإلهية في الكون سنة التفضيل مثل تفضيل بعض الأزمنة على بعض، والمسلم دائما يراعى فقه الأولويات، و فقه الأولويات مركب إضافي من كلمتين: أولا الفقه، وهو الفهم مطلقاً. ولا يُقصد بكلمة الفقه المعنى الاصطلاحي الذي هو "العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية"، وإنما هو مطلق الفهم الذي جعله الله شرط بلوغ الخير وتحقق الهدي: "من يُرد الله به خيراً يفقه في الدين". والأولويات، جمع أولى. وأولى في اللغة، أحرى وأجدر ففقه الأولويات هو: "معرفة ما هو أجدر من غيره في التطبيق" وإضاعة الوقت أشد من الموت ـ كما يقول ابن القيم ـ لأن إضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الآخرة والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها.

وقد كان السلف الصالح يحرصون على زيادة أعمالهم الصالحة واستثمار أوقاتهم ، واغتنام ساعات الليل والنهار. قال ابن مسعود رضي الله عنه : ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه نقص فيه أجلي ولم يزدد فيه عملي. ومن أسباب اغتنام الأوقات التخطيط المسبق للفوز بها، وشهر رمضان منحة ربانية لزيادة الأعمال الصالحة وتكفير الذنوب الماضية فهو شهر صوم نهاره يغفر الله به الذنوب ففي الصحيحين: "من صام رمضان إيمانا واحتسابا ، غُفر له ما تقدم من ذنبه" وقيام ليله يغفر الله به الذنوب أيضا فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه ) متفق عليه) وقيام ليلة القدر أيضا سبب في مغفرة ذنوب العبد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً ، غُفر له ما تقدم من ذنبه) متفق عليه

والفائز من يدرك جائزة رمضان، والخاسر من يخسر بركة الشهر الكريم، وللفوز بكنز رمضان هناك خريطة لأولويات المسلم في هذا الشهر نذكر شيئا منها في عجالة:

من فقه الأولويات أن يكون المسلم على علم بفقه الصيام وأحكام المفطرات وسنن وآدابه، والعبادات المتعلقة به كزكاة الفطر والاعتكاف والعمرة فالعلم الشرعي هو المصحح للعبادة.

من فقه الأولويات اغتنام شرف الزمان في العبادة فرمضان شهر القرآن وقد كان أمين الوحي جبريل يدارس الرسول صلى الله عليه وسلم القرآن في رمضان فعَنْ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلاَمُ: أَسَرَّ إِلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُنِي بِالقُرْآنِ كُلَّ سَنَةٍ، وَإِنَّهُ عَارَضَنِي العَامَ مَرَّتَيْنِ، وَلاَ أُرَاهُ إِلَّا حَضَرَ أَجَلِي» رواه البخاري. لذا كان من عمل الصحابة والسلف الصلح ترك دروس العلم والإقبال على القرآن قراءة وتدبرا وفهما، وقد كان من عادة إمام دار الهجرة مالك بن أنس رضي الله عنه أنه يفر من دروس العلم إلى القرآن والعبادة في رمضان. وكان من عادتهم أن يزيدوا أورادهم القرآنية في هذا الشهر.

ورمضان شهر القيام فالمسلمون لا يجتمعون على القيام إلا في هذا الشهر فليكن من أولويات الصائح الحرص على صلاة القيام  رجاء حصول ثوابها.

ورمضان شهر الاعتكاف فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يَعْتَكِفُ فِي كُلِّ رَمَضَانٍ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا كَانَ العَامُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ اعْتَكَفَ عِشْرِينَ يَوْمًا» رواه البخاري.

ومن فقه الأولويات في هذا الشهر الحرص على إطعام الطعام فبإمكان الواحد أن يتحصل على أجر صيام أكثر من رمضان في وقت واحد وذلك عن طريق إفطار الصائمين فقد جاء في الترمذي وابن ماجه: من فطر صائماً كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئاً. وقد كان الزُّهْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ يَقُولُ : إِنَّمَا هُوَ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَإِطْعَامُ الطَّعَام.

ومن فقه الأولويات الحرص على الاشتغال بذكر الله طوال اليوم: قال النبي صلى الله عليه وسلم ( ليس يتحسر أهل الجنة إلا على ساعة مرت بهم ولم يذكروا الله تعالى فيها ) رواه الطبراني.

ومن فقه الأولويات كثرة المكث في المسجد والإقلال من مخالطة الناس وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَصْحَابُهُ إِذَا صَامُوا جَلَسُوا فِي الْمَسْجِدِ .. وَقَالُوا : نَحْفَظُ صِيَامَنَا !ولا سيما في العشر الأخيرة قال ابن القيّم رحمه الله ( والأفضل في العشر الأخير من رمضان لزوم المسجد فيه والخلوة والإعتكاف دون التصدي لمخالطة الناس والإشتغال بهم, حتى إنه أفضل من تعليمهم العلم وإقرائهم القرآن عند كثير من العلماء.).

ومن فقه الأولويات الحرص على تحصيل ثواب الشهر كاملا واستثمار فضائله من مغفرة للذنوب ، ودعوة الصائم المجابة، وأن أجر الصائم لا يعلمه مقدار إلا الله

ومن فقه الأولويات الحرص على الابتعاد عن كل ما يفسد الأجر والثواب في هذا الشهر، والابتعاد عن مكدرات الصيام من الاشتغال بسفاسف الأمور دون معاليها، أو الوقوع في المنهيات كشهادة الزور والتسمع للكذب والكذابين أو متابعة قنوات الفساد والمجون، وحفظ الجوارح من الآثام لأن الوقوع فيها يضيع أجر الصوم وفي البخاري  عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ»

والله أعلم.

الاثنين، 28 مايو 2012

التفحيط بالسيارات .. رؤية شريعة


تناقلت وسائل الإعلام صورة بشعة لمصرع شابين وهما يقومان بما يسمى بالتفحيط، وكان عاقبة أمرهما أنهما فقدا حياتهما، وقد ناديت منذ خمس سنين بحرمة هذه العادة السيئة التي انتشرت في ربوع الشباب، فالنفس الإنسانية هي أعز ما يملكه الإنسان عامة والمسلم خاصة، وعلى المسلم أن يستثمر حياته في مرضاة الله وكذلك عليه أن يستثمر موته في مرضاة الله، ودعوة المسلم التقي هي أن ينال الشهادة حتى يحظى بما أعده الله للشهداء مصداقا لقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة/111] فالمسلم حياته طاعة وموته طاعة، وإن الخسران المبين هو فقد المسلم لحياته بسبب لعبة محرمة، فاللهم أحينا على طاعتك وتوفنا على طاعتك وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين. وأكرر الآن ما قلته سابقا في حرمة التفحيط ليت قومي يعلمون
: بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: يقصد بالتفحيط هو ما يقوم به قائد السيارة من ألعاب بهلوانية بالسيارة، وقد ينتهي الأمر بأن يقوم قائد السيارة بقتل نفسه أو قتل غيره بسبب هذه الألعاب الخطرة التي يتعمدها، أو إصابة نفسه أو إصابة غيره، أو إحداث أضرار مادية بما يمتلكه هو أو ما يمتلكه الآخرون. والتفحيط من الأمور المحرمة شرعا، وذلك لما قد يترتب عليه من قتل للنفس وقد قال تعالى: ( وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) أو قتل للغير بغير حقٍّ، وقد قال تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ). كما يحرم إلحاق الأذى بالنفس أو بالغير، قال تعالى: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَىالتَّهْلُكَةِ) فإلقاء الأيدي إلى التهلكة يشمل كل ما فيه إهلاك للروح والدين، وكل ما يستوجب عذاب الله يوم القيامة. كما جاء في الحديث الذي أخرجه أخرجه الإمام مالك في الموطأ،والدارقطني،وصحَّحه الحاكم على شرط الإمام مسلم:" لا ضرر ولا ضرار". كما يحرم تعمد إتلاف السيارة وإلحاق الضرر بها، وذلك لأن السيارة نعمة من النعم التي أنعم الله بها على عباده قال تعالى: (وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) . 

والنعمة تقابل بشكر المُنعم وصيانتها، ولا تقابل بتعمد إتلافها والإضرار بها. كما أنَّ إتلاف السيارة بهذا التفحيط إتلاف للمال الذي اشتريت به السيارة، وقد بوَّب الإمام البخاري باباً في صحيحه بعنوان بَاب مَا يُنْهَى عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى{ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ }وَ{ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ } روى فيه عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الْأُمَّهَاتِ، وَوَأْدَ الْبَنَاتِ، وَمَنَعَ وَهَاتِ، وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ." والمسلم مسئول أيضًا عن ماله فيما اكتسبه وأين أنفقه كما جاء في الحديث الذي أخرجه الترمذي في سننه عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ." 

وقد جاء في فتوى اللجنة الدائمة للإفتاء ما نصه : 
( التفحيط ظاهرة سيئة .. يقوم بارتكابها بعض الشباب الهابطين في تفكيرهم وسلوكهم .. نتيجة لقصورٍ في تربيتهم وتوجيههم ، وإهمالٍ من قبل أولياء أمورهم ، وهذا الفعل محرم شرعا، نظراً لما يترتب على ارتكابه من قتلٍ للأنفس وإتلافٍ للأموال وإزعاجٍ للآخرين وتعطيلٍ لحركة السير) . 
والله أعلم.

 * ملحوظة كان النشر الأول لهذه الفتوى في 19-فبراير 2007 على موقع إسلام أون لاين 


الثلاثاء، 22 مايو 2012

يطاقات التخفيض رؤية شرعية


بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فبطاقة التخفيض مدفوعة الثمن هي بطاقة يشتريها العميل لكي يتمتع بخصم محدد من أسعار السلع أو الخدمات التي يشتريها، وفي واقعة السؤال نجد أنها بطاقة ثنائية أي بين المتجر والعميل، وهدف هذه البطاقة إيجاد رغبة الشراء عند العميل، وأيضا تحصيل عائد مادي متمثل في قيمة البطاقة التي اشتراها العميل. ومن فوائدها للمتجر أيضا استقطاب عملاء جدد، ودعم العلاقات التجارية بين مقدم البطاقة والمستفيد منها، أما بالنسبة للعميل فإنها ستوفر له السلعة بثمن منخفض، وهذا من المقاصد المعتبرة في العملية الشرائية.
وبطاقة التخفيض مدفوعة الثمن لم تسلم من المحاذير الشرعية التي تقضي بحرمة التعامل بها، ومن هذه المحاذير الشرعية:
المخاطرة: فمن يشتري البطاقة لا يدري حاله هل هو من أصحاب الغنم أو من أهل الغرم؟ فقد يستفيد بالبطاقة ويحصل على كل التخفيضات المقررة عليها فيكون من أهل الغنم، وقد يفوته شيء فيكون من أهل الغرم، وتتفاوت حاله بين الغنم والغرم على قدر انتفاعه من البطاقة، وهذا عين ميسر القمار، وَالتَّمْلِيكَاتُ لاَ تَحْتَمِل هذه المعاملة ، لأَِدَائِهِا إِلَى مَعْنَى الْقِمَارِ، وسمي القمار قمارا لأنَّ كلَّ واحد من المقامرين يجوز أن يذهب ماله لصاحبه ويجوز أن يأخذ مال صاحبه، وقد حرمته الشريعة الغراء، لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة/90]
الغرر : حيث إن المستفيد من هذه البطاقة قد قام بشراء البطاقة بغية الحصول على تخفيض في ثمن السلع التي سيقوم بشرائها في المستقبل أو في ثمن الخدمات، وقيمة التخفيض مجهولة، فمصدر البطاقة ومن اشتراها كلاهما لا يعلم مقدار الخصم الذي سيقدمه هذا إلى ذاك، وقد يحدث أن يمنع مانع صاحب البطاقة من الشراء، وقد يشتري شيئا قليلا أو كثيرا، فهنا جهل تام بعين المبيع، إذ لا يعلم حقيقة قدر ما سيشتريه صاحب البطاقة وقدر ما سيبيعه مقدّم البطاقة فهذا كله يجعل المعاملة فاسدة لما فيها من الغرر والجهل، وقد أتت الشريعة بتحريم الغرر في عقود المعاوضات، فقد جاء في حديث مسلم في صحيحه عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-َعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ.
أكل أموال الناس بالباطل: فإن مقدم الخدمة قد جنى مالا دون أن يقدم سلعة أو خدمة لهذا المال الذي أخذه، فمن اشترى البطاقة قدّم ثمنا دون أن يأخذ مثمنا، وهذا من أكل أموال الناس بالباطل، وقد قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ"  [النساء/29] وقد يقع مشتري البطاقة في الإسراف المنهي عنه شرعا وذلك عندما يضطر لشراء أي سلع لا يريدها حتى لا تضيع عليه البطاقة.
وقد انتهى المجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي، في دورته الثامنة عشرة إلى قرار بتحريم التعامل بهذه البطاقات ، ومما جاء فيه : " بعد الاستماع إلى الأبْحاثِ المقدَّمة في الموضوع والمناقشات المستفيضة قرَّر : أولاً: عدم جواز إصدار بطاقات التخفيض المذكورة أو شرائها إذا كانت مقابل ثمن مقطوع أو اشتراك سنوي؛ لما فيها من الغرر؛ فإن مشتري البطاقة يدفع مالاً ولا يعرف ما سيحصل عليه مقابل ذلك؛ فالغرم فيها متحقق يقابله غنم محتمل، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر كما في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه.
ثانياً: إذا كانت بطاقات التخفيض تصدر بالمجان من غير مقابل، فإن إصدارها وقبولها جائز شرعاً؛ لأنه من باب الوعد بالتبرع أو الهبة. ا.هـ
الخلاصة:
أن بطاقة التخفيض مدفوعة الثمن يحرم التعامل بها، أما بطاقة التخفيض المجانية فلا حرج من التعامل بها.
والله أعلم.

الاثنين، 21 مايو 2012

هل يفرق بين الرجل والمرأة في الإسلام؟

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 
فإن الله تعالى ساوى بين الرجل والمرأة في أصل التكليف الشرعي، ووعد الله من أحسن منهما بالجنة، قال تعالى:" مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" [النحل/97] وخطاب الله تعالى في القرآن للرجل هو خطاب يشمل المرأة أيضا إلا ما خصص، فالتكاليف الشرعية واحدة في حق الجميع ولكن بالنسبة للأحكام الشرعية سنجد أن معظم أحكام الشرع مطالب بها الرجل والمرأة، فالمرأة تتوضأ مثل الرجل، وتصلي وتصوم وتزكي وتحج ..إلخ ولكن هناك أحكام شرعية يختص بها الرجل نظرا لطبيعة المرأة.
 وهناك أحكام شرعية تختص بها المرأة نظرا لطبيعتها، وهذه التفرقة في الأحكام مردها الاختلاف الطبعي الذي أودعه الله في كل من الرجل والمرأة، وهذا الاختلاف بين الجنسين هو اختلاف تكامل فالمرأة تكمل الرجل، والرجل يكمل المرأة. فمن الأحكام التي خص بها الرجل النفقة لأن طبيعة الرجل الجسمانية تؤهله لأن يكون هو العائل لأسرته، ودليله من الكتاب قوله تعالى:لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ [الطلاق:7].
 ودليل السنة قوله صلى الله عليه وسلم: ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف. ومن أجل أن النفقة واجبة عليه لا عليها كان حظه في الميراث في بعض الحالات أعلى من حقها قال تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النساء/11] وإن كانت بعض الحالات ترث المرأة فيه مثل الرجل وذلك مثل إذا توفى رجل وترك أماً و أباً و ابناً فإن الأم والأب كل منهما يأخذ السدس، وأحيانا ترث المرأة نصيبا أعلى من الرجل مثال ذلك إذا توفت المرأة و تركت زوجاً و بنتاً فإنَّ البنت ترث النصف و والدها يرث الربع فقط. ومما يختص به الرجل القوامة قال تعالى الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ" [النساء/34] والآية ذكرت سبب كون القوامة للرجل ورجعته إلى سببين الأول وهبي مأخوذ من قوله تعالى:( بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) فالله تعالى فضَّل الذكر على الأنثى والتفضيل سنة إلهية في الكون فقد فضَّل الله بعض الشهور على بعض، وفضل بعض الأيام على بعض، كما فضَّل بعض الملائكة على بعض، وفضَّل أيضا بعض المرسلين على بعض، قال تعالى:" تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ" [البقرة/253] 
وهناك فارق بين تفضيل الجنس وتفضيل جميع الأفراد، فالآية قد فضلت جنس الرجل على جنس المرأة، أما تفضيل جميع الرجال على النساء فلا فقد تفوق امرأة واحدة الرجال.
 وقد تسبق فتاة الرجال في العلم والأدب والأخلاق. وفي هذا يقول المتنبي: فلو كان النساء كمن ذكرنا لفضلت النساء على الرجال .
أما السبب الثاني فهو كسبي، يعود إلى الرجل لأن الله أناط به الإنفاق على الأسرة، وهو المقصود من قوله تعالى:(وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ) وقد قال تعالى أيضا: وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة/228] ومن الأحكام التي يختص بها الرجل الولاية العامة، وإباحة الزواج بأكثر من واحدة حتى أربع نسوة، وأن الطلاق يكون بيده لا بيد المرأة، وأنه يباح له الزواج بكتابية، وأن يسافر منفردا وأن الجهاد قد كتب عليه لا عليها، وكل هذه الأمور عائدة إلى أن الله تعالى خلق الذكر قويا خشنا يتحمل، ومن الأحكام التي تناسب المرأة لرقتها إباحة الذهب والحرير لها بخلاف الرجل فإنه يحرم عليه لبس الذهب والحرير، وأن صلاتها في بيتها خير لها، ولما خلق الله عليه المرأة من الأنوثة أمرها بأن تغطي سائر جسدها عدا الوجه والكفين، قال تعالى:" يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الأحزاب/59] أماعورة الرجل فهي ما بين السرة إلى الركبة عورة، ومما تختص به المرأة من أحكام عائدة إلى أنوثتها أنها تترك الصلاة والصيام أيام عادتها الشهرية فتقضي أيام الصوم، ولا تقضي أيام الصلاة، ولحاجة جنينها لها وكذلك الرضيع أباح لها الشرع ترك الصوم إذا اقتضت الحاجة لمصلحة صغيرها، ولما أودعه الله قلب المرأة من حنان وعاطفة، وسيطرة العاطفة على جنس النساء كانت شهادتهن في الأموال نصف شهادة الرجل، وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى [البقرة/282] 
ويذكر الشيخ محمد عبده السبب في ذلك قائلا: 
المرأة ليس من شأنها الاشتغال بالمعاملات المالية ونحوها من المعاوضات، فلذلك تكون ذاكرتها فيها ضعيفة ولا تكون كذلك في الأمور المنزلية التي هي شغلها ، فإنها فيها أقوى ذاكرة من الرجل ، يعني أن من طبع البشر ذكرانا وإناثا أن يقوى تذكرهم للأمور التي تهمهم ويكثر اشتغالهم بها ، ولا ينافي ذلك اشتغال بعض نساء الأجانب في هذا العصر بالأعمال المالية فإنه قليل لا يعول عليه ، والأحكام العامة إنما تناط بالأكثر في الأشياء وبالأصل فيها. اهـ وعلى هذا فيمكننا القول بأن الله أعطى كل جنس أحكامه الخاصة التي تليق به وبما أودعه الله فيه من طاقات وصدق من قال: "أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ" [الملك/14] 

والله أعلم.


السبت، 12 مايو 2012

من ضوابط خروج المرأة للعمل

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فإن الإسلام لم يحرم عمل المرأة، والأصل في عمل المرأة هو الجواز، وأحيانا يتعين على المرأة كما إذا كانت المرأة متعلمة وليس لها من عائل يعولها، وعلى المرأة إذا أرادت أن تخرج من بيتها للعمل أن تلتزم بآداب الشرع الحنيف، من غض البصر لقوله تعالى: "وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ" [النور/31] ، والالتزام بالزي الإسلامي، لقوله تعالى: "وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور/31]" والحشمة في السير، لقوله تعالى:" وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ" [النور/31] وعدم الخضوع في القول، لقوله تعالى:" فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا" [الأحزاب/32] وعدم الاختلاء بالرجال، وذلك لما في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم. وقال صلى الله عليه وسلم: ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان. رواه أحمد والترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما. كما روى الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلون بامرأة ليس بينها وبينه محرم. ومن هذه الشروط أيضا أن يكون اللقاء مقصورا على حاجة العمل فقط دون أن يترتب على هذا العمل أمور أخرى خارج ما يقتضيه العمل. وهناك من أهل العلم من ذهب إلى حرمة عمل المرأة في الأماكن المختلطة عملا بمبدأ سد الذرائع، لا لأن الاختلاط محرم على إطلاقه، فالاختلاط إذا كان منضبطا بالأمور الشرعية لم يحرم، ومن الشروط التي يجب على المرأة أن تتحلى بها في عملها خلق الحياء، ويدل على هذا ما جاء في سورة القصص:" فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ" [القصص/25] فإن مشيتها كانت على استحياء، كما أن قولها كان يلفه الحياء لفًّا.
ويضاف إلى هذه الشروط أن يكون العمل في ذاته مباحا، ويلائم طبيعة المرأة التي فطرها الله عليها، وألا يترتب على هذا العمل ضياع حقوق الدين أو العائلة، فالعمل الذي لا يمكن المرأة من إقامة شعائر دينها يحرم علي المرأة أن تزاوله، كما أن العمل الذي يترتب عليه ضياع أسرته من زوج وأولاد فإنه يحرم على المرأة مزاولته لأن حقوق الزوج والأولاد مقدمة على حقها في مزاولة العمل إن تعارضت الحقوق، وعلى المرأة المتزوجة أن تحصل على إذن زوجها في الخروج للعمل، كما يشترط في العمل أن يحقق نفعا ما؛ لأنَّ العمل الذي لا يحقق أي منفعة يكون عبثا، والمسلم مأمور بالاحتراز عن العبث، كما يشترط في العمل أيضا ألا يؤدي إلى فتنة، وألا يوقع في مفسدة سواء أكانت مفسدة في الدنيا أو الدين، فكل ما كان طريقا للفتن على المسلم أن يتجنبه، فإذا التزمت المرأة كل هذه الشروط وامتنعت عن النواهي كان العمل مباحا وإلا فلا.
 والله أعلم.

الأربعاء، 9 مايو 2012

بين الرفق والعقاب مسافات يقدرها الحكيم


بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فإن مسألة تربية الأطفال وتأديبهم، ولا سيما البنات منهن من الأمور التي لا يتسع المقام لبسط الكلام فيها، ولكن نذكر ضابطا عاما معينا في هذا المقام، وهو ما دلنا عليه النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله رفيق يجب الرفق في الأمر كله. وفي رواية : إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على سواه. ، وعنها رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم قال: إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه. رواه مسلم. وقال أيضاً: ومن يحرم الرفق يحرم الخير كله. رواه مسلم عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه. وفي صحيح مسلم من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأشج عبد القيس: إن فيك خصلتين يحبهما الله : الحلم والأناة. "والأناة : التثبت وترك العجلة".
فتربية النشء تحتاج من المربي إلى الرفق وإلى الحلم والأناة، وأيضا الحكمة، والحكمة هي وضع الشيء في موضعه، فقد يضطر أحيانا إلى التعنيف ولكن التعنيف الذي يقوي لا التعنيف الذي يهدم، وفي هذا يقول الشاعر العربي الحكيم:
فَقَسا لِيزدَجِروا وَمَن يَكُ حازِماً       فَليَقسُ أَحياناً وَحيناً يَرحَمُ
وفي ضوء القسوة المطلوبة من المربي الحكيم الرحيم نستطيع أن نفهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر". رواه أحمد وأبو داود عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما بإسناد صحيح.
والضرب المقصود في الحديث ليس الضرب الذي يشوه أو يكسر أو يهين بل الضرب الخفيف الذي يقوِّم السلوك وينفع لا الضرب المبرح
وسئل الإمام أحمد عما يجوز فيه ضرب الولد؟ قال: يضرب على الأدب. وقال أيضاً: اليتيم يؤدب، والصغير يضرب ضرباً خفيفاً. وسئل عن ضرب المعلم الصبيان؟ فقال: على قدر ذنوبهم، ويتوقى بجهده الضرب، وإن كان صغيراً لا يعقل فلا يضربه. وذكر ابن الجوزي أن الولد إذا احتيج إلى الضرب ضرب ضرباً غير مبرح. ولا سيما أن العقاب البدني المؤذي يفسد أكثر مما يصلح، وفساده يكون في ضعف الشخصية أو الاستمرار في العناد ويولد الكراهية ويدعو للجنوح لذا وجب على المربي أن يتجنب العقاب البدني المؤذي. وإذا احتاج للعقاب البدني فليكون عقابا خفيفا غرضه عدم تكرار السلوك المعيب، وأن يقتنع الطفل بأنه وقع في خطأ لذا فهو يعاقب.
على أن الأمور لو كانت تعالج بالرفق لتعين الرفق طريقا للعلاج، وإذا تعين الضرب الخفيف طريقا للعلاج كانت الحكمة في استعماله، فالحكمة هي وضع الشيء في موضعه دون إفراط أو تفريط، وننبه على أمر يجب على المربي أن يتحلى به وهو الحلم وعدم الغضب من التصرف الذي يعالجه لأن الغضب يعمي ويصم، والغضب غشاوة تغطي العقل وتدعو صاحبها للانتقام لا المعالجة، فيتحول الأمر من التأديب إلى الانتقام وهذا يأتي بخلاف المقصود من التربية، وقد ينتهي الأمر إلى الفوضى المفسدة لذا وجب علينا أن نحذر من الغضب.
والله أعلم.

السبت، 24 مارس 2012

مما يجب على الفقيه مراعاته


الْحَمْدُ لله الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الحَكِيمُ । والصلاة والسلام على السِّراج المنير صاحب لواء الحمد نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الكرام । وبعد:

فإنَّ الناظر المتدبر للشريعة الإسلامية يجدُ أنَّها صالحة لكل زمان ومكان، وما من واقعة وقعت للناس إلا ولها في الشريعة حكمها، قال تعالى: "وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ" [المائدة/50] فمن خصائص هذه الشريعة شمولها لكل الأزمنة ولكل الأمكنة وجميع أحوال الناس، وبما أنَّ أحداث الزمان لا تنتهي، ووقائعه لا تقف عند حدٍّ معين؛ فإن دور الفقيه حينئذ هو الكشف عن الحكم الشرعي متصورا لمآلات الأفعال مستحضرا للواقع بكلِّ أبعاده، معتمدا على الأصول الفقهية والقواعد الفقهية والأصولية التي حرَّرها العلماء النحارير، فكل هذه الأمور تتضافر وتتساند في تصوير النظرة الفقهية الكُليَّة للمفتي لكي يستنبط الحكم الشرعي للنوازل الحادثة.

ومن الأمور التي يجب على الفقيه مراعاتها:

(‌أ) الضرورة والحاجة، فمن الأصول المقاصدية للشريعة الإسلامية أنها أتت برفع الحرج عن هذه الأمة المرحومة، قال تعالى:(مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ)[المائدة/6] فالشريعة قد أتت برفع المشقة، وكان التيسير من أعظم مناهجها التي أتت به، فكلما ضاق الأمر اتسع، والضرورة تبيح المحظور، كما أنَّ الضرورة تُقدَّر بقدرها.

(‌ب) مراعاة الأعراف والتقاليد، ومراعاة الأماكن عند تنزيل الأحكام، فالمسلم الذي يعيش في البلاد الباردة تتغير أحكامه عن المسلم الذي يعيش في البلاد الحارة، فالمسلم الذي يعيش في البلاد الحارة له أن يعمل ـ على سبيل المثال ـ بسنة الإبراد، بِصلاة الظهر في شدّة الحرّ لحاجته إليها، لقوله صلى الله عليه وسلم: (أَبْرِدُوا بِالظُّهْرِ؛ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ) رواه البخاري، ويتبع سنة الإبراد بالصلاة سنة الإبراد بالأذان أيضاً؛ لما في حديث أبي رضي الله عنه؛ فبيئات الناس تختلف، وهذا الاختلاف في الأنظمة على الفقيه أن يراعيه في تنزيل الأحكام الشرعية، فما يصلح لقوم من اجتهادات فقهية قد يكون الفساد بعينه إذا أخذه آخرون، والأخذ بالمصلحة ودرء المفسدة لا يتأتى إلا بمراعاة أحوال الناس وأعرافهم.

(‌ج) مراعاة الأزمنة، فمن المعروف أن الفتوى تتغير بتغير الزمان كما تتغير بتغير المكان، فما يصلح في زمن لا يصلح في زمن آخر، وخير مثال على هذا ضالة الإبل، حيث جاء سئل النبي صلى الله عليه وسلم. عَنْ ضَالَّةِ الْإِبِلِ، فقال صلى الله عليه وسلم.: مَا لَكَ وَلَهَا ؟ دَعْهَا فَإِنَّ مَعَهَا حِذَاءَهَا وَسِقَاءَهَا تَرِدُ الْمَاءَ، وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَجِدَهَا رَبُّهَا. وقد استمر العمل بهذا النص في عهد سيدنا أبي بكر الصديق والفاروق عمر رضي الله عنهما، فلما أتى زمن سيدنا عثمان بن رضي الله عنه فإنه وجد ـ رضي الله عنه ـ أن المصلحة الشرعية تقضي بالنظر إلى مقصود الحديث وهو حفظ ضالة الإبل لصاحبه، فعمل بمقصود الحديث دون ظاهر نصه، فأمر بالتقاط ضالة الإبل وتعريفها، فإن لم يأت صاحبها باعها، واحتفظ له بثمنها. روى الإمام مالك في الموطأ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ شِهَابٍ يَقُولُ: كَانَتْ ضَوَالُّ الإِبِلِ فِى زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ إِبِلاً مُؤَبَّلَةً تَنَاتَجُ لاَ يَمَسُّهَا أَحَدٌ، حَتَّى إِذَا كَانَ زَمَانُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَمَرَ بِتَعْرِيفِهَا، ثُمَّ تُبَاعُ، فَإِذَا جَاءَ صَاحِبُهَا أُعْطِىَ ثَمَنَهَا([1])

وذلك لأنَّ سيدنا عثمان رضي الله عنه رأي الفساد قد دبَّ في نفوس الناس وخشي على ضالة الإبل من الضياع المبين. وفي صنيع سيدنا عثمان رضي الله عنه حفظ للمال، وهذا هو عين ما قصده الشارع الحكيم। وقد عقد ابن القيم فصلاً في كتابه (إعلام الموقعين) بعنوان:

فصل في تغيّر الفتوى، واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والبيئات والعوائد، ومما قاله في ذلك المقام:‏

‏(هذا فصلٌ عظيمُ النفع جدًا، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم في الشريعة، أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه، ما يعلم أنَّ الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإنَّ الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجَور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل.. ومن أفتى الناس بمجرد المنقول من الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم فقد ضلّ وأضل، وكانت جنايته على الدين أعظم مِن جناية مَن طب الناس كلهم ­على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم­ بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم، بل هذا الطبيب الجاهل، وهذا المفتي الجاهل أضر ما على أديان الناس وأبدانهم، والله المستعان)([2])


([1]) موطأ الإمام مالك (2/ 227) وبهامشه: تنوير الحوالك للحافظ السيوطي ـ مكتبة المشهد الحسيني- مصر.

([2]) إعلام الموقعين عن رب العالمين المجلد الثاني (3/1) دار الحديث القاهرة.




الجمعة، 23 مارس 2012

علاج الفتور بعد رمضان


بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: لكي نقف على أسباب فتور العبادة بعد رمضان علينا أن نعرف الثمار التي غرسها فينا شهر الصيام حتى نستديمها بعد رمضان، فممَّا لا شك فيه أن إدراك المسلم لشهر رمضان وتوفيق الله له على صومه وقيامه من أجل نعم الله على المسلم، والصوم ليس تركا للطعام والشراب ولكن الصوم هو مراقبة الله في الحركات والسكنات في الأفعال والأقوال، الصوم يعلم المسلم كيف يكون من أهل التقوى قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" [البقرة/183] وهذه الآية الكريمة بدأت بنداء من الله تعالى لأهل الإيمان، والنداء تنبيه للمخاطب، وحثّ له على الفعل، وفيه كمال عناية بموضوع الخطاب وتصدير آية الصوم بنداء المؤمنين دلالة على أن تنفيذ ما جاء بعد النداء من مقتضيات الإيمان، إما بالفعل إن كان خيرا وإما بالترك إن كان شرا، ولهذا قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه " إذا سمعت الله يقول: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فأرعها سمعك، فإنه إمَّا خير تُؤمر به، وإمَّا شر تُنهى عنه " وقد ختمت آية فرضية الصوم بقوله (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) فالغاية الكبرى المرجوة من فرض الصوم هي تحقيق التقوى في نفس المؤمن، فإن كان الصوم فيه ترك للشهوات المباحة فهذه تربية وتدريب على ترك الشهوات المحرمة، وإن كانت المسلم يشغله نهار رمضان بالصيام وليله بالقيام ويديم على قراءة القرآن ففي هذا حُجَّة على المرء في غير رمضان، فرمضان أقام الحجة على من يتكاسل بعد رمضان. والصوم يعدُّ الصائمين ويدربهم على تحقيق تقوى الله والنهوض بالأعمال الصالحات من ذكر وصوم وقيام وبر وإحسان، يقول صاحب التفسير الكبير: الصوم يورث التقوى لما فيه من انكسار الشهوة وانقماع الهوى فإنه يردع عن الأشر والبطر والفواحش ويهون لذات الدنيا ورياستها ، وذلك لأن الصوم يكسر شهوة البطن والفرج ، وإنما يسعى الناس لهذين. اهـ فالصوم يزكِّي النفس الإنسانية وهو جُنَّة يقي الإنسان في الوقوع في المعاصي، والتقوى المرجوة من الصيام هي التقوى المستمرة التي تتجلى في مراقبة لله تعالى في السر والعلن، والتخلق بخلق الصبر، وللمحافظة على آثار الصوم التي حصل عليها المسلم في رمضان عليه أن يديم الأعمال الصالحة التي وفقه الله لعملها في رمضان، فمن حُسن الحسنة الحسنة تتبعها ومن شؤم السيئة السيئة تتبعها، والمسلم قد عرف طريق الهمة العالية وذاق طعم حلاوة الإيمان وعرف لذة قيام الليل، وحلاوة قراءة القرآن، فالعاقل لا يضيع هذا الغرس الذي غرسه في شهر رمضان ويتركه ولا ينتفع به. ورمضان مدرسة تعلم المسلم فيها كيف يصلي قيام الليل وتعلم فيها مداومة قراءة القرآن وكثرة الاستغفار والتسبيح والصلاة علة النبي صلى الله عليه وسلم، والإحسان إلى الناس وكظم الغيظ والصبر ومراقبة الله تعالى، فعلى المسلم أن يحافظ على آثار الصوم التي انغرست في نفسه من صومه لشهر رمضان، فإن لم يتحقق هذا فإن الصائم لا يجني من صيامه إلا الجوع والعطش، وخاب وخسر من لم يجن من صومه إلا هذا السهم الخائب. * أسباب الفتور الذي يصيب المسلم بعد رمضان من أهم أسباب فتور المسلم بعد رمضان ضعف الإيمان بالله، والجهل بأسماء الله العلى وصفاته الحسنى فالإيمان يزيد وينقص، فمن كان من أهل الإيمان الزائد فإنه يعلم أن رب رمضان هو رب سائر الشهور، ومن عرف الله بأسمائه وصفاته ووقع حب الله في قلبه فإنه لا يفتر عن عبادته. قال تعالى:" وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ" [البقرة/165]

ومن أسباب الفتور:
غياب ذلك الجو الروحاني الذي يكون في شهر رمضان، وعلاج هذا يكون بكثرة حضور مجالس العلم التي تحفها الملائكة، ومجالسة الصالحين الذين يذكر الله برؤية وجوههم قال تعالى:" وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف/28]


ومن أسباب الفتور:
الإسراف في صنوف اللهو المباحة والانغماس في ملذات الدنيا، وعلاج هذا المواصلة في صنوف الطاعة التي تدرب عليها المرء في رمضان من صيام كصيام الست من شوال والثلاثة القمرية من كل شهر والاثنين والخميس وصوم عرفة وصوم عاشوراء إلخ والمداومة على قراءة القرآن وقيام الليل، واستشعار مراقبة الله التي تعود عليها في رمضان।

ومن أسباب الفتور:
خروج مردة الشياطين من محبسهم الذي دخلوه في أول رمضان ففي الحديث وتزيينهم للمعاصي وتثبيطهم عن الطاعات فقد روى البخاري بإسناده عن أبي هريرة - رضى الله عنه - يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ ، وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ » وعلاج هذا يكمن في صدق اللجوء إلى الله والتحصن به سبحانه وتعالى والدخول تحت وصف العبودية لله تتعالى قال تعالى: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ [الحجر/42] فمن تمحض لعبودية الله وأخلص العبادة لله سبحانه فإن الله يعصمه من الشيطان، وصدق الله تعالى عندما قال :إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (الإسراء:65) وليعلم المسلم أن الشيطان له عدو قال تعالى:" إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ" [فاطر/6]
ومن أسباب الفتور:
ضعف الهمة وعدم القدرة على مجاهدة النفس ، وعلاج هذا يكون بصدق التوكل على الله وليعلم المسلم أن الخير كله من الله :"وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ" [النحل/53]
وختاما على المسلم : أن يتسلح بسلاح الدعاء وعليه أن يدعو الله تعالى أن يعينه على العبادة والذكر والشكر، قال تعالى: وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ [الحجرات/7]
وقد علمنا الله في القرآن كيف كان يدعو أنبياء الله ويطلبون منه سبحانه وتعالى العون على العبادة وتيسيرها، فنبي الله إبراهيم دعا ربه قائلا:" رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ [إبراهيم/40] ونبي الله سليمان دعا بقوله: "وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ [النمل/19] وأرشد النبي صلى الله عليه وسلم أمته كيف تدعو قال صلى الله عليه وسلم" أتحبون أن تجتهدوا في الدعاء ؟ قولوا : اللهم أعنا على شكرك و ذكرك و حسن عبادتك " . صححه الألباني في السلسلة الصحيحة. وفي وصية النبي صلى الله عليه وسلم لسيدنا معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: يَا مُعَاذُ! وَاللَّهِ إِنِّى لأُحِبُّكَ « أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لاَ تَدَعَنَّ فِى دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ تَقُولُ اللَّهُمَّ أَعِنِّى عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ »صححه الألباني في صحيح الجامع.
والله أعلم


الخميس، 22 مارس 2012

راتب الزوجة ... لمن؟


بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

فقد أقر الإسلام للمرأة الكثير من الحقوق التي لم تكن تمتع بها بحرية قبل سطوع شمس الإسلام على الأرض، فقبل نزول الإسلام ـ على سبيل المثال ـ كانت المرأة محرومة من الإرث، بل كان ينظر إليها على أنها متاع تركه الزوج، فتدخل هي في الأشياء التي تقسم على الورثة، ومنع المرأة من الميراث ساد في الأعراف الجاهلية قبل الإسلام، فاليهود على سبيل المثال لا يورثون المرأة، والمرأة في الجاهلية الأولى لم تكن ترث شيئا في بعض قبائل العرب، أتى الإسلام والحال هذه والفوضى تعم الأرض، والأعراف الفاسدة التي تظلم المرأة وغيرها سائدة منتشرة بين الناس فحارب الإسلام هذه الأعراف الفاسدة، وأعاد للمرأة مكانتها، وإن كانت المرأة لاقت تمييزا خارج الإسلام فالمرأة المسلمة لاقت تميزا، فالمرأة لها حق طلب الطلاق في الإسلام كما لها أن تختلع من زوجها إن رفض الطلاق، ولها ذمتها المالية المستقلة، ولها الحق في البيع والشراء ولها الحق في التملك وجميع ألوان التصرف من هبة وهدية ووصية، ووقف.إلخ ولها الحق في التعلم والتعليم.

وعلى ضوء هذا فللمرأة ذمتها المالية المستقلة التي تستطيع من خلالها أن تباشر حقها في إدارة مالها على الوجه الذي ترضاه، وما تتقاضاه الزوجة من راتب نظير عملها هو من حقها هي لا سلطان لأحد عليه إلا المرأة ولها حق التملك والتصرف فيه في أوجه الحلال كتجارة وغيرها، ولها أن تنفق منه على أهلها، ما دامت ملتزمة بشروط الإنفاق العامة مثلها مثل الرجل سواء بسواء.

أما عن حق الرجل في راتب زوجته، فإن للزوجة ذمتها المالية المستقلة التي تمنع غيرها من التسلط على مالها فلا يجوز له أن يتسلط على مال امرأته دون رضاها، فإن فعل هذا يكون قد أكل أموال الناس بالباطل، والحق سبحانه وتعالى يقول: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ (البقرة: من الآية188) وفي الحديث الذي أخرجه الدارقطني: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب من نفسه"ليس له أن يأخذ من مال زوجته شيئا دون رضاها، وليس لها أن تجبر على أن تنفق في البيت، والزوج إن كان منفقا على زوجته بالمعروف فله إما أن يسمح لها بالعمل دون أن يأخذ منها شيئا، وإما أن يمنعها من العمل ولا يأذن لها بالخروج للعمل ما دام موسرا لأنه من المعلوم أن نفقة البيت ونفقة الزوجة والأولاد كلها تقع على عاتق الرجل وليس على المرأة. أما إذا أعسر الزوج بالنفقة أو امتنع عن النفقة عليها ففي هذه الحالة لها أن تخرج لكي تبحث عن نفقتها.

أما إذا اشترط الرجل قبل الزواج على المرأة أن يسمح لها بالعمل نظير أن تساعده بشيء في نفقة البيت ورضيت المرأة والتزمت بهذا قبل الزواج فإنه يجب عليها أن تلتزم بالشرط الذي قبلته على نفسها، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: المسلمون على شروطهم؛ إلا شرطاً حرم حلالاً أو أحل حراماً. رواه أصحاب السنن.

أما عن مشاركة المرأة لزوجها بمالها فإن هذا يعود إليها دون أن تجبر على هذا، علما أنه أما إن رضيت المرأة بأن تدفع شيئا لزوجها دون إكراه أو ضغط فهذا لها، وقال تعالى: "وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا [النساء/4]

وخير الصدقة هي الصدقة على الزوج والولد، ويشهد لهذا حديث ابن مسعود الذي رواه البخاري في صحيحه البخاري أن زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت يا نبي الله : إنك أمرت اليوم بالصدقة ، وكان عندي حلي لي ، فأردت أن أتصدق به ، فزعم ابن مسعود أنه هو وولده أحق من تصدقت عليهم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" صدق ابن مسعود ، زوجك وولدك أحق من تصدقت عليهم "
وقال صلى الله عليه وسلم: " الصدقة على المسكين صدقة ، وعلى ذي الرحم صدقة وصلة" رواه الترمذي والنسائي بإسناد صحيح.

فالمرأة يندب لها أن تشارك زوجها وأولادها في مالها ويكون لها هذا العمل من أرجى أعمالها الصالحة أمام الله تعالى.

والله أعلم।