السبت، 24 مارس 2012

مما يجب على الفقيه مراعاته


الْحَمْدُ لله الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الحَكِيمُ । والصلاة والسلام على السِّراج المنير صاحب لواء الحمد نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الكرام । وبعد:

فإنَّ الناظر المتدبر للشريعة الإسلامية يجدُ أنَّها صالحة لكل زمان ومكان، وما من واقعة وقعت للناس إلا ولها في الشريعة حكمها، قال تعالى: "وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ" [المائدة/50] فمن خصائص هذه الشريعة شمولها لكل الأزمنة ولكل الأمكنة وجميع أحوال الناس، وبما أنَّ أحداث الزمان لا تنتهي، ووقائعه لا تقف عند حدٍّ معين؛ فإن دور الفقيه حينئذ هو الكشف عن الحكم الشرعي متصورا لمآلات الأفعال مستحضرا للواقع بكلِّ أبعاده، معتمدا على الأصول الفقهية والقواعد الفقهية والأصولية التي حرَّرها العلماء النحارير، فكل هذه الأمور تتضافر وتتساند في تصوير النظرة الفقهية الكُليَّة للمفتي لكي يستنبط الحكم الشرعي للنوازل الحادثة.

ومن الأمور التي يجب على الفقيه مراعاتها:

(‌أ) الضرورة والحاجة، فمن الأصول المقاصدية للشريعة الإسلامية أنها أتت برفع الحرج عن هذه الأمة المرحومة، قال تعالى:(مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ)[المائدة/6] فالشريعة قد أتت برفع المشقة، وكان التيسير من أعظم مناهجها التي أتت به، فكلما ضاق الأمر اتسع، والضرورة تبيح المحظور، كما أنَّ الضرورة تُقدَّر بقدرها.

(‌ب) مراعاة الأعراف والتقاليد، ومراعاة الأماكن عند تنزيل الأحكام، فالمسلم الذي يعيش في البلاد الباردة تتغير أحكامه عن المسلم الذي يعيش في البلاد الحارة، فالمسلم الذي يعيش في البلاد الحارة له أن يعمل ـ على سبيل المثال ـ بسنة الإبراد، بِصلاة الظهر في شدّة الحرّ لحاجته إليها، لقوله صلى الله عليه وسلم: (أَبْرِدُوا بِالظُّهْرِ؛ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ) رواه البخاري، ويتبع سنة الإبراد بالصلاة سنة الإبراد بالأذان أيضاً؛ لما في حديث أبي رضي الله عنه؛ فبيئات الناس تختلف، وهذا الاختلاف في الأنظمة على الفقيه أن يراعيه في تنزيل الأحكام الشرعية، فما يصلح لقوم من اجتهادات فقهية قد يكون الفساد بعينه إذا أخذه آخرون، والأخذ بالمصلحة ودرء المفسدة لا يتأتى إلا بمراعاة أحوال الناس وأعرافهم.

(‌ج) مراعاة الأزمنة، فمن المعروف أن الفتوى تتغير بتغير الزمان كما تتغير بتغير المكان، فما يصلح في زمن لا يصلح في زمن آخر، وخير مثال على هذا ضالة الإبل، حيث جاء سئل النبي صلى الله عليه وسلم. عَنْ ضَالَّةِ الْإِبِلِ، فقال صلى الله عليه وسلم.: مَا لَكَ وَلَهَا ؟ دَعْهَا فَإِنَّ مَعَهَا حِذَاءَهَا وَسِقَاءَهَا تَرِدُ الْمَاءَ، وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَجِدَهَا رَبُّهَا. وقد استمر العمل بهذا النص في عهد سيدنا أبي بكر الصديق والفاروق عمر رضي الله عنهما، فلما أتى زمن سيدنا عثمان بن رضي الله عنه فإنه وجد ـ رضي الله عنه ـ أن المصلحة الشرعية تقضي بالنظر إلى مقصود الحديث وهو حفظ ضالة الإبل لصاحبه، فعمل بمقصود الحديث دون ظاهر نصه، فأمر بالتقاط ضالة الإبل وتعريفها، فإن لم يأت صاحبها باعها، واحتفظ له بثمنها. روى الإمام مالك في الموطأ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ شِهَابٍ يَقُولُ: كَانَتْ ضَوَالُّ الإِبِلِ فِى زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ إِبِلاً مُؤَبَّلَةً تَنَاتَجُ لاَ يَمَسُّهَا أَحَدٌ، حَتَّى إِذَا كَانَ زَمَانُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَمَرَ بِتَعْرِيفِهَا، ثُمَّ تُبَاعُ، فَإِذَا جَاءَ صَاحِبُهَا أُعْطِىَ ثَمَنَهَا([1])

وذلك لأنَّ سيدنا عثمان رضي الله عنه رأي الفساد قد دبَّ في نفوس الناس وخشي على ضالة الإبل من الضياع المبين. وفي صنيع سيدنا عثمان رضي الله عنه حفظ للمال، وهذا هو عين ما قصده الشارع الحكيم। وقد عقد ابن القيم فصلاً في كتابه (إعلام الموقعين) بعنوان:

فصل في تغيّر الفتوى، واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والبيئات والعوائد، ومما قاله في ذلك المقام:‏

‏(هذا فصلٌ عظيمُ النفع جدًا، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم في الشريعة، أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه، ما يعلم أنَّ الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإنَّ الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجَور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل.. ومن أفتى الناس بمجرد المنقول من الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم فقد ضلّ وأضل، وكانت جنايته على الدين أعظم مِن جناية مَن طب الناس كلهم ­على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم­ بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم، بل هذا الطبيب الجاهل، وهذا المفتي الجاهل أضر ما على أديان الناس وأبدانهم، والله المستعان)([2])


([1]) موطأ الإمام مالك (2/ 227) وبهامشه: تنوير الحوالك للحافظ السيوطي ـ مكتبة المشهد الحسيني- مصر.

([2]) إعلام الموقعين عن رب العالمين المجلد الثاني (3/1) دار الحديث القاهرة.




ليست هناك تعليقات: