الأربعاء، 13 أكتوبر 2010

التدخل الطبي لاختيار جنس الجنين


بسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

فإن النفوس قد جبلت حب الأولاد، وجعل الله الأولاد من زينة الحياة الدنيا؛ قال تعالى: "زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ ﴾ [آل عمران:14] وبين سبحانه أن الأولاد سواء أكانوا ذكورا أو إناثا هم هبة منه سبحانه وتعالى، " لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ
* أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ"[ الشورى:49-50]

وقد أجاز العلماء تحديد جنس الجنين بالطرق الطبعية ؛ كالنظام الغذائي ، والغسول الكيميائي ، وتحري وقت الإباضة عند الجماع؛ لكونها أسبابًا مباحة لا محذور فيها.

أما تحديد جنس الجنين عن طريق فصل الحيوان المنوي قبل التخصيب فقد اختلف الفقهاء فيها إلى قولين:

القول الأول يذهب إلى الجواز، ومن أبرز من قال بهذا الرأي فضيلة الشيخ القرضاوي والعلامة عبد الله بن بيه، والشيخ القرضاوي قد أجاز لمن للشخص يكون منجبا لنوع من الأولاد ويشتاق للنوع الثاني، فأجاز له الإقدام على هذه العملية؛ لأنه حينئذ يكون ملبيا لحاجة معتبرة عند الزوجين، حيث أباح لمن كان عنده عدد من البنات ويرغب في الذكور أو العكس أن يجري هذه العملية استثناء من الأصل، والأصل عند فضيلته أن تترك الأمور على الفطرة التي تنظم الحياة كما يريد الله سبحانه وتعالى.[1]

ورجَّح الدكتور خالد بن عبد الله المصلح[2] - أستاذ الفقه في كلية الشريعة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية أن الأصل في تحديد جنس الجنين الإباحة والجواز؛ لقوة أدلة الجواز، ولعدم قيام دليل يعضد القول بالمنع والتحريم.

وذكر عدة ضوابط لهذا الأمر، هي:

" يمكن إجمال تلك الضوابط المقترحة في: ألا تكون عملية تحديد جنس الجنين سياسة عامة؛ لئلا يفضي إلى اختلال في التوازن الطبعي في نسب الخلق. وأن يقتصر استعمالها على الحاجة. وأن يُتَأكد تمام التأكد من عدم اختلاط المياه المفضي إلى اختلاط الأنساب. كما يجب العمل على حفظ العورات من الهتك، وذلك من خلال قصر الكشف على موضع الحاجة قدرًا وزمانًا. وأن يكون تحديد جنس الجنين بتراضي الوالدين. كما ينبغي ألا يغيب أن هذه الوسائل ما هي إلا أسباب لإدراك المطلوب، وأن الدعاء آكدها وأعظمها تأثيرًا."

القول الثاني يقول بالمنع من إجراء هذه العملية، فلا يجوز التدخل الطبي من أجل تحديد جنس الجنين، وهناك من قال بالحرمة المطلقة، وهناك من قال بالحرمة ولكنه استثنى منها حالة ما إذا كان هناك ضرورة علاجية في الأمراض الوراثية التي تصيب أحد النوعين فيطلب بالتدخل الطبي النوع الآخر.

وأفتى بالمنع سماحة المفتي العام السابق للملكة الأردنية الهاشمية الدكتور نوح علي سلمان، في الفتوى رقم (733) ، وكان مما جاء فيها [بتصرف يسير]:

وفي موضوع اختيار جنس الجنين من خلال عملية أطفال الأنابيب لا توجد هذه الضرورة التي تباح من أجله هذه المحاذير، فالذكر والأنثى كلاهما ولد، تبقى من خلالهما الذرية، وحسبنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت ذريته من خلال ابنته فاطمة الزهراء رضي الله عنها، وكراهية البنات من أخلاق الجاهلية التي ندد الله بها في قوله: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ . يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) النحل/58-59)

وكان هذا التكريم للمرأة من مفاخر الشريعة الإسلامية التي لم يدركها غير المسلمين إلا في قرون متـأخرة، وما عملوا بها على وجهها.
والادعاء بأن الرغبة في الأنثى إلى جانب الأبناء الذكور كالرغبة في وجود الابن إلى جانب البنات دعوى غير صحيحة، فلا نلاحظ مشكلة عند من كان نصيبه في الإنجاب الذكور فقط، ولكن نرى الرغبة الشديدة في وجود الابن الذكر لدى من رزق البنات فقط، وهذه الرغبة لا تبرر أن نستبيح المحظورات التي تترتب على عملية أطفال الأنابيب؛ لأن الرغبة في الابن الذكر لا تسمو إلى درجة الرغبة في الإنجاب.
ولذا يرى مجلس الإفتاء ما يلي:
1- أن عملية اختيار جنس الجنين بواسطة أطفال الأنابيب للقادر على الإنجاب من غير هذه الوسيلة لا تجوز، وفي البنات ما يغني عن البنين.
2- غير القادر على الإنجاب إلا من خلال عملية أطفال الأنابيب لا بأس في حقه من عملية اختيار جنس الجنين.

3- وهناك أساليب أخرى لاختيار جنس الجنين تتحدث عنها الأوساط الطبية، ولا تترتب عليها محاذير شرعية، فلا بأس بها، كالنظام الغذائي، والغسول الكيميائي، وتوقيت الجماع، وتناول بعض الأطعمة.

4- اختيار جنس الجنين تفاديًا لأمراض وراثية تصيب الذكور دون الإناث أو العكس، فيجوز عندئذٍ التدخل من أجل الضرورة العلاجية، مع مراعاة الضوابط الشرعية المقررة، وعلى أن يكون ذلك بقرار من لجنة طبية لا يقل عدد أعضاءها عن ثلاثة من الأطباء العدول، تقدم تقريرًا طبيًّا بالإجماع، يؤكد أن حالة المريضة تستدعي هذا التدخل الطبي خوفاً على صحة الجنين من المرض الوراثي. اهـ

وفي الفتوى رقم(931) جاء المنع أيضا:

تحديد جنس الجنين بالوسائل الطبية المعاصرة من المسائل النوازل التي اجتهد فيها الفقهاء المعاصرون، وكان لمجلس الإفتاء فيها اجتهاد أيضا في القرار رقم: (120) حيث رأى فيه حرمة هذا النوع من العمليات؛ "لأن الأصل في المسلم أن يرضى بقضاء الله وقدره، والرضا بما يرزقه الله من ولد، ذكرا كان أو أنثى، ولما فيه من المحاذير الشرعية، كفتح الباب أمام العبث العلمي بالإنسان، واختلال التوازن بين الجنسين، والتعرض لاختلاط الأنساب، وكشف العورات." اهـ

وممن ذهب إلى المنع أيضا الدكتور محمد بن عبد الجواد النتشة في كتابه المسائل الطبية المستجدة في ضوء الشريعة.[3]
وذهب أ.د/ ناصر عبد الله الميمان أستاذ الدراسات العليا الشرعية بجامعة أم القرى –سابقا إلى أن استخدام الطرق المخبرية لتحديد جنس الجنين إنما يباح بدافع الوقاية من الأمراض الوراثية الخطيرة المرتبطة بالجنس ويمنع فيما عدا ذلك ،ونظراً لما تتضمنه هذه الطرق من ارتكاب محذور -وهو كشف العورة – وما يحتفها من مخاطر وأضرار[4]

و قرر مجلس المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي في دورته التاسعة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة المجمع نوفمبر/2007م منع التدخل الطبي إلا في حال وجود أمراض وراثية، تصيب أحد الجنسين فيُطلب حينئذ انتخاب الجنس الآخر، وإليك نص القرار:

أن الأصلَ في المسلم التسليمُ بقضاءِ الله وقدره، والرضى بما يرزقه الله؛ من ولد ، ذكراً كان أو أنثى، ويحمد الله تعالى على ذلك، فالخيرة فيما يختاره الباري جل وعلا، ولقد جاء في القرآن الكريم ذمُ فعلِ أهلِ الجاهلية من عدم التسليم والرضى بالمولود إذا كان أنثى قال تعالى : ( وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ )، ولا بأس أن يرغب المرء في الولد ذكراً كان أو أنثى، بدليل أن القرآنَ الكريم أشار إلى دعاء بعض الأنبياء بأن يرزقهم الولدَ الذكرَ، وعلى ضوء ذلك قرر المجمع ما يلي:

أولاً: يجوز اختيارُ جنس الجنين بالطرق الطبعية؛ كالنظام الغذائي، والغسول الكيميائي، وتوقيت الجماع بتحري وقت الإباضة؛ لكونها أسباباً مباحة لا محذور فيها.

ثانياً: لا يجوز أيُ تدخل طبي لاختيار جنس الجنين، إلا في حال الضرورة العلاجية في الأمراض الوراثية، التي تصيب الذكورَ دون الإناث، أو بالعكس، فيجوز حينئذٍ التدخل، بالضوابط الشرعية المقررة، على أن يكون ذلك بقرار من لجنة طبية مختصة، لا يقل عدد أعضائها عن ثلاثة من الأطباء العدول، تقدم تقريراً طبياً بالإجماع يؤكد أن حالة المريضة تستدعي أن يكون هناك تدخل طبي حتى لا يصاب الجنين بالمرض الوراثي، ومن ثم يُعرض هذا التقريرُ على جهةِ الإفتاء المختصة لإصدار ما تراه في ذلك.

ثالثاً: ضرورة إيجاد جهات للرقابة المباشرة والدقيقة على المستشفياتِ والمراكزِ الطبية؛ التي تمارس مثلَ هذه العملياتِ في الدول الإسلامية، لتمنعَ أيَ مخالفة لمضمون هذا القرار. وعلى الجهات المختصة في الدول الإسلامية إصدارُ الأنظمةِ والتعليمات في ذلك. انتهى

فالمجمع الفقهي يذهب إلى عدم جواز التدخل الطبي لتحديد نوع الجنين إلا في حال الضرورة العلاجية في الأمراض الوراثية.

والذي أرجحه في هذا المسألة هو ما انتهى إليه قرار المجمع الفقهي القائل بتحريم التدخل الطبي لفصل الحيوانات المنوية بغية اختيار جنس الجنين، وإباحته في حال وجود أمراض الوراثية؛ لأن في القول بالجواز جملة من المحاذير الشرعية أهمها أنه يفتح الباب أمام اختلال التوازن في المجتمع لأنَّ الغالب على النفس البشرية حب الذكور فيؤدي ذلك إلى الرغبة عن إنجاب الإناث، وإجازة مثل هذه العمليات سيقضي على وجود الإناث في المجتمع، والواقع يشهد لهذا، فقد فرضت الصين عام 1978م سياسة الطفل الواحد على شعبها، فعمدت الأسر إلى اختيار الذكور بشتى الوسائل.

وقد أدى ذلك إلى اختلال نسبة الذكور والإناث في المجتمع حتى وصلت من خمسة إلى ستة ذكور مقابل أنثى واحدة، وهذا خلل اجتماعي كبير يضرب في هندسة بناء المجتمع.

والمسلم يعتقد أن الذكور والإناث هم هبة من الله تعالى، ولا يضير الرجل أن يكون أبا لبنات فقط ويكفي في هذا أن نذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن ذريته إلا من ابنته فاطمة ـ رضي الله عنها، النبي صلى الله عليه وسلم كانت إناثا وهذا يكفي، ثم أن المسلم يطلب من الله صلاح الذرية فالذرية الصالحة هي المرجوة وهي المقصود في دعاء عباد الرحمن" وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ" [الفرقان/74] فالذرية الصالحة هي التي تنفع الإنسان بعد موته سواء أكانت الذرية ذكورا أو إناثا فالعبرة هي صلاح الذرية لا نوع الذرية.

ومن يتضجر من إنجاب الإناث فعليه أن يتذكر أن هؤلاء البنات يكن سترا من النار لمن أحسن إليهن من الآباء، جاء في الحديث المتفق عليه واللفظ إلى الإمام مسلم أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَتْ: جَاءَتْنِى امْرَأَةٌ، وَمَعَهَا ابْنَتَانِ لَهَا، فَسَأَلَتْنِى، فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِى شَيْئًا غَيْرَ تَمْرَةٍ وَاحِدَةٍ، فَأَعْطَيْتُهَا إِيَّاهَا، فَأَخَذَتْهَا، فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا، وَلَمْ تَأْكُلْ مِنْهَا شَيْئًا، ثُمَّ قَامَتْ فَخَرَجَتْ وَابْنَتَاهَا، فَدَخَلَ عَلَىَّ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- فَحَدَّثْتُهُ حَدِيثَهَا، فَقَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « مَنِ ابْتُلِىَ مِنَ الْبَنَاتِ بِشَىْءٍ فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ ». وعند البخاري:" « مَنْ يَلِى مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ شَيْئًا فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ »

قال الحافظ في الفتح:

في الحديث تأكيد حق البنات لما فيهن من الضعف غالبا عن القيام بمصالح أنفسهن ، بخلاف الذكور لما فيهم من قوة البدن وجزالة الرأي وإمكان التصرف في الأمور المحتاج إليها في أكثر الأحوال .. وقال النووي تبعا لابن بطال : إنما سماه ابتلاء لأن الناس يكرهون البنات ، فجاء الشرع بزجرهم عن ذلك ، ورغب في إبقائهن . اهـ

وقال العيني في عمدة القاري :

وفيه [أي في الحديث] أن النفقة على البنات والسعي عليهن من أفضل أعمال البر المنجية من النار. وبوَّب الإمام مسلم في صحيحه بابا بعنوان باب فَضْلِ الإِحْسَانِ إِلَى الْبَنَاتِ. روى فيه عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : « مَنْ عَالَ جَارِيَتَيْنِ حَتَّى تَبْلُغَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَا وَهُوَ » فالإحسان إلى البنات والرضا بهن طريق إلى ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم في الآخرة.

قال الحافظ المناوي في فيض القدير :

دخل مصاحبا لي قريبا مني يعني أن ذلك الفعل مما يقرب فاعله إلى درجة من درجات المصطفى صلى الله عليه وسلم قال ابن عباس : هذا من كرائم الحديث وغرره ا.هـ لذا كان الراجح قرار مجمع الفقه الإسلامي برابطة العالم الإسلامي، وعلى من رزقه الله الإناث أن يصبر وأن يحتسب هذا الصبر عند الله، وليستبشر بما أعده الله في الآخرة جزاء إحسانه للبنات.

الخلاصة:

أن اختيار جنس الجنين عن طريق الطرق الطبيعة لا حرج فيه، وأن اختيار جنس الجنين عن طريق التدخل الطبي اختلف الفقهاء فيها ما بين مجيز لمن غلب على ذريته نوع فطلب جنينا من الجنس الآخر، وانتهى قرار مجمع الفقهي بالمنع، إلا في حالة وجود أمراض وراثية تستلزم التدخل الطبي.

والله أعلم.

--------------------------------------------------------------------------------

[1] برنامج الشريعة والحياة حلقة الهندسة الوراثية وعلم الجينات بتاريخ 21-7-2001م

[2] دراسته التي بعنوان بعنوان: رؤية شرعية لتحديد جنس الجنين.

[3] هي في الأصل رسالة الدكتوراه التي قدِّمها لجامعة أم درمان بالسودان.

[4] دراسته التي بعنوان : حكم تحديد جنس الجنين في الشريعة الإسلامية.

ليست هناك تعليقات: