السبت، 23 أكتوبر 2010

سفر المرأة دون محرم.. رؤية فقهية


بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فقد جاءت أحاديث كثيرة صحيحة تنهى عن سفر المرأة بلا محرم، وقد أخذ جمهور العلماء من هذه الأحاديث أن الأصل في سفر المرأة بدون مَحرم هو الحرمة.
من هذه الأحاديث ما رواه الإمام مسلم في صحيحه
بسنده عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « لاَ يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ تُسَافِرُ مَسِيرَةَ ثَلاَثِ لَيَالٍ إِلاَّ وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ ».
ومنها ما رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- قَالَ: « لاَ يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ تُسَافِرُ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إِلاَّ مَعَ ذِى مَحْرَمٍ عَلَيْهَا ».
وفي صحيح مسلم أيضا عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- :« لاَ يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ سَفَرًا يَكُونُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا إِلاَّ وَمَعَهَا أَبُوهَا أَوِ ابْنُهَا أَوْ زَوْجُهَا أَوْ أَخُوهَا أَوْ ذُو مَحْرَمٍ مِنْهَا ».
وفي صحيح مسلم أيضا عَنْ أَبِى مَعْبَدٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم- يَخْطُبُ يَقُولُ: « لاَ يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ وَلاَ تُسَافِرِ الْمَرْأَةُ إِلاَّ مَعَ ذِى مَحْرَمٍ ». فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ امْرَأَتِى خَرَجَتْ حَاجَّةً، وَإِنِّى اكْتُتِبْتُ فِى غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا؟ قَالَ: « انْطَلِقْ فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ ».
وقد أخذ العلماء من هذه الأحاديث وغيرها أنَّ الأصل هو حرمة سفر المرأة دون محرم للأحاديث الكثيرة في النهي عن ذلك.
وقد اختلف العلماء في المرأة تحتاج للسفر بلا محرم هل يمكنها السفر أم لا؟
فتمسك كثير من العلماء بحرمة سفرها دون محرم أو زوج، بل وذهب الإمام النووي – رحمه الله- إلى عدم تحديد ذلك السفر بمسافة معينة، فكل ما يطلق عليه أنه سفر يحرم على المرأة أن تسافره دون محرم أو زوج.
قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم:

[ولم يُرِدْ ‏صلى الله عليه وسلم تحديد أقل ما يسمى سفراً، فالحاصل أنَّ كل ما يسمى سفراً تُنهى ‏عنه المرأة بغير زوج أو محرم….لرواية ابن عباس المطْلَقة، وهي آخر روايات مسلم ‏السابقة: " لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم" وهذا يتناول جميع ما يسمى سفراً.]
وهناك من العلماء من استثنى صنوفا من النساء أجاز لهن السفر بلا محرم، وهناك من لم يستثن، فقد استثنى المالكية المرأةَ العجوز التي لا تُشتهى، وكذلك سفر المرأة لحج الفريضة في رفقة مأمونة.
جاء في موطأ الإمام مالك:
قَالَ مَالِكٌ فِى الصَّرُورَةِ مِنَ النِّسَاءِ الَّتِى لَمْ تَحُجَّ قَطُّ: إِنَّهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا ذُو مَحْرَمٍ يَخْرُجُ مَعَهَا أَوْ كَانَ لَهَا فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا أَنَّهَا لاَ تَتْرُكُ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَيْهَا فِى الْحَجِّ لِتَخْرُجْ فِى جَمَاعَةِ النِّسَاءِ.
والإمام مالك روى في موطئه حديث أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « لاَ يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخَرِ تُسَافِرُ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إِلاَّ مَعَ ذِى مَحْرَمٍ مِنْهَا ».
والإمام مالك إنما أباح سفر المرأة دون محرم في السفر الواجب على المرأة كالحج دون غيره من السفر المباح والمندوب، وحمل أحاديث نهي المرأة عن السفر دون محرم على السفر المباح أو المندوب، أما السفر الواجب فلا يشترط فيه وجود المحرم.
جاء في مواهب الجليل في شرح مختصر الشيخ خليل ـ من كتب المالكية :
وحمل مالك - رحمه الله - الحديث المتقدم على السفر المباح والمندوب إليه دون الواجب، بدليل إجماعهم على أن المرأة إذا أسلمت في بلد الحرب لزمها الخروج منها إلى بلد الإسلام، وإن لم يكن معها ذو محرم، خلافا لأهل العراق في قولهم : إنَّ فرض الحج يسقط عنها بعدم المحرم .
وقول مالك أصح ؛ لأنه يخصص من عموم الحديث الهجرة من بلد الحرب بالإجماع وحج الفريضة بالقياس على الإجماع، وقال التلمساني في شرح جامع الجلاب، وأما سفر الحج فإنها تسافر مع جماعة النساء إذا لم يكن لها محرم.
قال الأبهري : لأنها لو أسلمت في دار الحرب لوجب عليها أن تخرج من غير ذي محرم إلى دار الإسلام، وكذا إذا أسرت وأمكنها أن تهرب منهم يلزمها أن تخرج من غير ذي محرم، فكذلك يلزمها أن تؤدي كل فرض عليها إذا لم يكن لها ذو محرم من حج أو غيره. انتهى
قال الحافظ في الفتح:
قال البغوي: لم يختلفوا في أنه ليس للمرأة السفر في غير الفرض إلا مع زوج أو محرم إلا كافرة أسلمت في دار الحرب أو أسيرة تخلصت وزاد غيره أو امرأة انقطعت من الرفقة فوجدها رجل مأمون فإنه يجوز له أن يصحبها حتى يبلغها الرفقة. انتهى
وقد اختار شيخ الإسلام ابن تيمية –قدس الله سره -جواز سفر المرأة دون محرم عند توافر الأمن جاء في الفتاوى الكبرى :
وتحج كل امرأة آمنة مع عدم محرم، قال أبو العباس : وهذا متوجه في سفر كل طاعة. انتهى
وقال ابن مفلح رحمه الله في : "الفروع" من كتب الحنابلة :
" وعند شيخنـا ـ أي : ابن تيمية ـ : تحج كل امرأة آمنة مع عدم المحرم . وقال : إن هذا مُتوجِّه في كل سفر طاعة ، كذا قال ـ رحمه الله ـ " أ.هـ
ومن الأحاديث التي يعتمد عليها من أجاز خروج المرأة دون محرم عند وجود الأمن ما رواه البخاري بسنده من حديث إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن جده أنه قال:أَذِنَ عُمَرُ - رضى الله عنه - لأَزْوَاجِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فِى آخِرِ حَجَّةٍ حَجَّهَا ، فَبَعَثَ مَعَهُنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ . أ.هـ
فمن أباح السفر أخذ من هذا الحديث أن الصاحبين الجليلين عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما لم يكونا محرمين لأمهات المؤمنين، وقد سافر الصحابيان الجليلان بهنَّ من غير نكير من باقي صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فلا مانع من سفر المرأة مع نسوة ثقات أو وجود الأمن .
قال الحافظ في فتح الباري:
ومن الأدلة على جواز سفر المرأة مع النسوة الثقات إذا أمن الطريق أول أحاديث الباب[1] لاتفاق عمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف ونساء النبي صلى الله عليه و سلم على ذلك، وعدم نكير غيرهم من الصحابة عليهن في ذلك. أ.هـ
ومن منع سفر المرأة بدون محرم قال: إن هذا كان خصوصية لأمهات المؤمنين، وبهذا أجاب أبو حنيفة في المسألة.
قال العيني في عمدة القاري:
جواب أبي حنيفة لحكام الرازي فإنه قال: سألت أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه هل تسافر المرأة بغير محرم؟ فقال: لا. نهى رسول الله أن تسافر امرأة مسيرة ثلاثة أيام فصاعدا إلا ومعها زوجها أو ذو محرم منها.
قال حكام: فسألت العرزمي، فقال: لا بأس بذلك حدثني عطاء أن عائشة كانت تسافر بلا محرم فأتيت أبا حنيفة، فأخبرته بذلك، فقال أبو حنيفة: لم يدر العرزمي ما روى، كان الناس لعائشة محرما فمع أيهم سافرت فقد سافرت بمحرم، وليس الناس لغيرها من النساء كذلك.
ولقد أحسن أبو حنيفة في جوابه هذا؛ لأن أزواج النبي كلهن أمهات المؤمنين وهم محارم لهن؛ لأن المحرم من لا يجوز له نكاحها على التأييد، فكذلك أمهات المؤمنين حرام على غير النبي إلى يوم القيامة. أ.هـ
ومحرم المرأة المؤبد يجوز له أن يرى من المرأة ما يظهر عند المهنة غالبا كاليدين والساقين، وهذا لا يجوز في حق أمهات المؤمنين، فهن أمهات في جانب، وأجنبيات في وجه آخر، فمحرمية النكاح على التأبيد في حقِّ أمهات المؤمنين تخالفها في غيرها من نساء الأمة، وتحريم نكاح أمهات المؤمنين مأخوذ من قول الحق سبحانه وتعالى: "النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ" [الأحزاب/6]
فأمهات المؤمنين ورد تشبيههن بالأم الحقيقية في أوجه دون أوجه أخرى.

قال الألوسي البغدادي: منزلات منزلة أمهاتهم في تحريم النكاح واستحقاق التعظيم وأما فيما عدا ذلك من النظر إليهن والخلوة بهن وإرثهن ونحو ذلك فهن كالأجنبيات. أ.هـ
ومن الفقهاء المعاصرين الذين ذهبوا إلى جواز سفر المرأة دون محرم عند وجود الأمن الشيخ ابن جرين ـ رحمه الله ـ حيث قال في الفتوى رقم (7286):
فالذي أراه جواز سفر المرأة في الطائرة، لمدة نصف يوم أو ثلثيه، بحيث يوصلها المحرم الأول إلى المطار، ويتصل بالمحرم الثاني ليستقبلها في البلد الثاني، ولا خلوة في الطائرة، والمرأة كسائر الراكبات، وليس هناك مجال للخوف عليها، والاحتمالات التي تقدر نادرة الوجود، والأصل السلامة، وهذا يعم السفر للحج وغيره، وهذا ما ترجح عندي رفقًا بالمسلمين. أ.هـ
ومن الذين أجازوا سفر المرأة من غير محرم عند الأمن ووجود الثقات فضيلة الشيخ القرضاوي ومما قاله بعدما أورد أدلة الجواز:
ونود أن نضيف هنا قاعدتين جليلتين :

أولا: أن الأصل في أحكام العادات والمعاملات هو الالتفات إلى المعاني والمقاصد بخلاف أحكام العبادات، فإن الأصل فيها هو التعبد والامتثال، دون الالتفات إلى المعاني والمقاصد . كما قرر ذلك الإمام الشاطبي ووضحه واستدل له.

ثانيا: إنَّ ما حرم لذاته لا يباح إلا للضرورة، أما ما حرم لسد الذريعة فيباح للحاجة . ولا ريب أن سفر المرأة بغير محرم مما حرم سدًا للذريعة.

كما يجب أن نضيف أن السفر في عصرنا، لم يعد كالسفر في الأزمنة الماضية، محفوفًا بالمخاطر لما فيه من اجتياز الفلوات، والتعرض للصوص وقطاع الطرق وغيرهم. بل أصبح السفر بواسطة أدوات نقل تجمع العدد الكثير من الناس في العادة، كالبواخر والطائرات، والسيارات الكبيرة، أو الصغيرة التي تخرج في قوافل .
وهذا يجعل الثقة موفورة، ويطرد من الأنفس الخوف على المرأة؛ لأنها لن تكون وحدها في موطن من المواطن.
ولهذا لا حرج أن تسافر مع توافر هذا الجو الذي يوحي بكل اطمئنان وأمان. [2]أ.هـ
الخلاصة:
الأصل في المسألة هو منع المرأة من السفر دون محرم،
وهذا رأي الجمهور، فإذا كانت المرأة ليست تحت ‏ضرورة ملجئة فعليها إن أرادت السفر أن تكون مع محرم لها أو مع زوج عملا بقول جمهورالعلماء.
أما إن كانت المرأة تحت ضرورة ملجئة، أو تحتاج لهذا السفر لنفع نفسها وبيتها وأسرتها ووطنها، ولا تستطيع أن تتخلى عنه، فيسعها قول من أجاز لها السفر دون محرم بشرط وجود الرفقة المأمونة، ووجود الأمن وانتفاء الريب، وألا تتعرض المرأة للإيذاء والابتذال، وإلا حرم سفرها.
والله أعلم.

الأربعاء، 13 أكتوبر 2010

التدخل الطبي لاختيار جنس الجنين


بسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

فإن النفوس قد جبلت حب الأولاد، وجعل الله الأولاد من زينة الحياة الدنيا؛ قال تعالى: "زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ ﴾ [آل عمران:14] وبين سبحانه أن الأولاد سواء أكانوا ذكورا أو إناثا هم هبة منه سبحانه وتعالى، " لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ
* أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ"[ الشورى:49-50]

وقد أجاز العلماء تحديد جنس الجنين بالطرق الطبعية ؛ كالنظام الغذائي ، والغسول الكيميائي ، وتحري وقت الإباضة عند الجماع؛ لكونها أسبابًا مباحة لا محذور فيها.

أما تحديد جنس الجنين عن طريق فصل الحيوان المنوي قبل التخصيب فقد اختلف الفقهاء فيها إلى قولين:

القول الأول يذهب إلى الجواز، ومن أبرز من قال بهذا الرأي فضيلة الشيخ القرضاوي والعلامة عبد الله بن بيه، والشيخ القرضاوي قد أجاز لمن للشخص يكون منجبا لنوع من الأولاد ويشتاق للنوع الثاني، فأجاز له الإقدام على هذه العملية؛ لأنه حينئذ يكون ملبيا لحاجة معتبرة عند الزوجين، حيث أباح لمن كان عنده عدد من البنات ويرغب في الذكور أو العكس أن يجري هذه العملية استثناء من الأصل، والأصل عند فضيلته أن تترك الأمور على الفطرة التي تنظم الحياة كما يريد الله سبحانه وتعالى.[1]

ورجَّح الدكتور خالد بن عبد الله المصلح[2] - أستاذ الفقه في كلية الشريعة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية أن الأصل في تحديد جنس الجنين الإباحة والجواز؛ لقوة أدلة الجواز، ولعدم قيام دليل يعضد القول بالمنع والتحريم.

وذكر عدة ضوابط لهذا الأمر، هي:

" يمكن إجمال تلك الضوابط المقترحة في: ألا تكون عملية تحديد جنس الجنين سياسة عامة؛ لئلا يفضي إلى اختلال في التوازن الطبعي في نسب الخلق. وأن يقتصر استعمالها على الحاجة. وأن يُتَأكد تمام التأكد من عدم اختلاط المياه المفضي إلى اختلاط الأنساب. كما يجب العمل على حفظ العورات من الهتك، وذلك من خلال قصر الكشف على موضع الحاجة قدرًا وزمانًا. وأن يكون تحديد جنس الجنين بتراضي الوالدين. كما ينبغي ألا يغيب أن هذه الوسائل ما هي إلا أسباب لإدراك المطلوب، وأن الدعاء آكدها وأعظمها تأثيرًا."

القول الثاني يقول بالمنع من إجراء هذه العملية، فلا يجوز التدخل الطبي من أجل تحديد جنس الجنين، وهناك من قال بالحرمة المطلقة، وهناك من قال بالحرمة ولكنه استثنى منها حالة ما إذا كان هناك ضرورة علاجية في الأمراض الوراثية التي تصيب أحد النوعين فيطلب بالتدخل الطبي النوع الآخر.

وأفتى بالمنع سماحة المفتي العام السابق للملكة الأردنية الهاشمية الدكتور نوح علي سلمان، في الفتوى رقم (733) ، وكان مما جاء فيها [بتصرف يسير]:

وفي موضوع اختيار جنس الجنين من خلال عملية أطفال الأنابيب لا توجد هذه الضرورة التي تباح من أجله هذه المحاذير، فالذكر والأنثى كلاهما ولد، تبقى من خلالهما الذرية، وحسبنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت ذريته من خلال ابنته فاطمة الزهراء رضي الله عنها، وكراهية البنات من أخلاق الجاهلية التي ندد الله بها في قوله: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ . يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) النحل/58-59)

وكان هذا التكريم للمرأة من مفاخر الشريعة الإسلامية التي لم يدركها غير المسلمين إلا في قرون متـأخرة، وما عملوا بها على وجهها.
والادعاء بأن الرغبة في الأنثى إلى جانب الأبناء الذكور كالرغبة في وجود الابن إلى جانب البنات دعوى غير صحيحة، فلا نلاحظ مشكلة عند من كان نصيبه في الإنجاب الذكور فقط، ولكن نرى الرغبة الشديدة في وجود الابن الذكر لدى من رزق البنات فقط، وهذه الرغبة لا تبرر أن نستبيح المحظورات التي تترتب على عملية أطفال الأنابيب؛ لأن الرغبة في الابن الذكر لا تسمو إلى درجة الرغبة في الإنجاب.
ولذا يرى مجلس الإفتاء ما يلي:
1- أن عملية اختيار جنس الجنين بواسطة أطفال الأنابيب للقادر على الإنجاب من غير هذه الوسيلة لا تجوز، وفي البنات ما يغني عن البنين.
2- غير القادر على الإنجاب إلا من خلال عملية أطفال الأنابيب لا بأس في حقه من عملية اختيار جنس الجنين.

3- وهناك أساليب أخرى لاختيار جنس الجنين تتحدث عنها الأوساط الطبية، ولا تترتب عليها محاذير شرعية، فلا بأس بها، كالنظام الغذائي، والغسول الكيميائي، وتوقيت الجماع، وتناول بعض الأطعمة.

4- اختيار جنس الجنين تفاديًا لأمراض وراثية تصيب الذكور دون الإناث أو العكس، فيجوز عندئذٍ التدخل من أجل الضرورة العلاجية، مع مراعاة الضوابط الشرعية المقررة، وعلى أن يكون ذلك بقرار من لجنة طبية لا يقل عدد أعضاءها عن ثلاثة من الأطباء العدول، تقدم تقريرًا طبيًّا بالإجماع، يؤكد أن حالة المريضة تستدعي هذا التدخل الطبي خوفاً على صحة الجنين من المرض الوراثي. اهـ

وفي الفتوى رقم(931) جاء المنع أيضا:

تحديد جنس الجنين بالوسائل الطبية المعاصرة من المسائل النوازل التي اجتهد فيها الفقهاء المعاصرون، وكان لمجلس الإفتاء فيها اجتهاد أيضا في القرار رقم: (120) حيث رأى فيه حرمة هذا النوع من العمليات؛ "لأن الأصل في المسلم أن يرضى بقضاء الله وقدره، والرضا بما يرزقه الله من ولد، ذكرا كان أو أنثى، ولما فيه من المحاذير الشرعية، كفتح الباب أمام العبث العلمي بالإنسان، واختلال التوازن بين الجنسين، والتعرض لاختلاط الأنساب، وكشف العورات." اهـ

وممن ذهب إلى المنع أيضا الدكتور محمد بن عبد الجواد النتشة في كتابه المسائل الطبية المستجدة في ضوء الشريعة.[3]
وذهب أ.د/ ناصر عبد الله الميمان أستاذ الدراسات العليا الشرعية بجامعة أم القرى –سابقا إلى أن استخدام الطرق المخبرية لتحديد جنس الجنين إنما يباح بدافع الوقاية من الأمراض الوراثية الخطيرة المرتبطة بالجنس ويمنع فيما عدا ذلك ،ونظراً لما تتضمنه هذه الطرق من ارتكاب محذور -وهو كشف العورة – وما يحتفها من مخاطر وأضرار[4]

و قرر مجلس المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي في دورته التاسعة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة المجمع نوفمبر/2007م منع التدخل الطبي إلا في حال وجود أمراض وراثية، تصيب أحد الجنسين فيُطلب حينئذ انتخاب الجنس الآخر، وإليك نص القرار:

أن الأصلَ في المسلم التسليمُ بقضاءِ الله وقدره، والرضى بما يرزقه الله؛ من ولد ، ذكراً كان أو أنثى، ويحمد الله تعالى على ذلك، فالخيرة فيما يختاره الباري جل وعلا، ولقد جاء في القرآن الكريم ذمُ فعلِ أهلِ الجاهلية من عدم التسليم والرضى بالمولود إذا كان أنثى قال تعالى : ( وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ )، ولا بأس أن يرغب المرء في الولد ذكراً كان أو أنثى، بدليل أن القرآنَ الكريم أشار إلى دعاء بعض الأنبياء بأن يرزقهم الولدَ الذكرَ، وعلى ضوء ذلك قرر المجمع ما يلي:

أولاً: يجوز اختيارُ جنس الجنين بالطرق الطبعية؛ كالنظام الغذائي، والغسول الكيميائي، وتوقيت الجماع بتحري وقت الإباضة؛ لكونها أسباباً مباحة لا محذور فيها.

ثانياً: لا يجوز أيُ تدخل طبي لاختيار جنس الجنين، إلا في حال الضرورة العلاجية في الأمراض الوراثية، التي تصيب الذكورَ دون الإناث، أو بالعكس، فيجوز حينئذٍ التدخل، بالضوابط الشرعية المقررة، على أن يكون ذلك بقرار من لجنة طبية مختصة، لا يقل عدد أعضائها عن ثلاثة من الأطباء العدول، تقدم تقريراً طبياً بالإجماع يؤكد أن حالة المريضة تستدعي أن يكون هناك تدخل طبي حتى لا يصاب الجنين بالمرض الوراثي، ومن ثم يُعرض هذا التقريرُ على جهةِ الإفتاء المختصة لإصدار ما تراه في ذلك.

ثالثاً: ضرورة إيجاد جهات للرقابة المباشرة والدقيقة على المستشفياتِ والمراكزِ الطبية؛ التي تمارس مثلَ هذه العملياتِ في الدول الإسلامية، لتمنعَ أيَ مخالفة لمضمون هذا القرار. وعلى الجهات المختصة في الدول الإسلامية إصدارُ الأنظمةِ والتعليمات في ذلك. انتهى

فالمجمع الفقهي يذهب إلى عدم جواز التدخل الطبي لتحديد نوع الجنين إلا في حال الضرورة العلاجية في الأمراض الوراثية.

والذي أرجحه في هذا المسألة هو ما انتهى إليه قرار المجمع الفقهي القائل بتحريم التدخل الطبي لفصل الحيوانات المنوية بغية اختيار جنس الجنين، وإباحته في حال وجود أمراض الوراثية؛ لأن في القول بالجواز جملة من المحاذير الشرعية أهمها أنه يفتح الباب أمام اختلال التوازن في المجتمع لأنَّ الغالب على النفس البشرية حب الذكور فيؤدي ذلك إلى الرغبة عن إنجاب الإناث، وإجازة مثل هذه العمليات سيقضي على وجود الإناث في المجتمع، والواقع يشهد لهذا، فقد فرضت الصين عام 1978م سياسة الطفل الواحد على شعبها، فعمدت الأسر إلى اختيار الذكور بشتى الوسائل.

وقد أدى ذلك إلى اختلال نسبة الذكور والإناث في المجتمع حتى وصلت من خمسة إلى ستة ذكور مقابل أنثى واحدة، وهذا خلل اجتماعي كبير يضرب في هندسة بناء المجتمع.

والمسلم يعتقد أن الذكور والإناث هم هبة من الله تعالى، ولا يضير الرجل أن يكون أبا لبنات فقط ويكفي في هذا أن نذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن ذريته إلا من ابنته فاطمة ـ رضي الله عنها، النبي صلى الله عليه وسلم كانت إناثا وهذا يكفي، ثم أن المسلم يطلب من الله صلاح الذرية فالذرية الصالحة هي المرجوة وهي المقصود في دعاء عباد الرحمن" وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ" [الفرقان/74] فالذرية الصالحة هي التي تنفع الإنسان بعد موته سواء أكانت الذرية ذكورا أو إناثا فالعبرة هي صلاح الذرية لا نوع الذرية.

ومن يتضجر من إنجاب الإناث فعليه أن يتذكر أن هؤلاء البنات يكن سترا من النار لمن أحسن إليهن من الآباء، جاء في الحديث المتفق عليه واللفظ إلى الإمام مسلم أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَتْ: جَاءَتْنِى امْرَأَةٌ، وَمَعَهَا ابْنَتَانِ لَهَا، فَسَأَلَتْنِى، فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِى شَيْئًا غَيْرَ تَمْرَةٍ وَاحِدَةٍ، فَأَعْطَيْتُهَا إِيَّاهَا، فَأَخَذَتْهَا، فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا، وَلَمْ تَأْكُلْ مِنْهَا شَيْئًا، ثُمَّ قَامَتْ فَخَرَجَتْ وَابْنَتَاهَا، فَدَخَلَ عَلَىَّ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- فَحَدَّثْتُهُ حَدِيثَهَا، فَقَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « مَنِ ابْتُلِىَ مِنَ الْبَنَاتِ بِشَىْءٍ فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ ». وعند البخاري:" « مَنْ يَلِى مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ شَيْئًا فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ »

قال الحافظ في الفتح:

في الحديث تأكيد حق البنات لما فيهن من الضعف غالبا عن القيام بمصالح أنفسهن ، بخلاف الذكور لما فيهم من قوة البدن وجزالة الرأي وإمكان التصرف في الأمور المحتاج إليها في أكثر الأحوال .. وقال النووي تبعا لابن بطال : إنما سماه ابتلاء لأن الناس يكرهون البنات ، فجاء الشرع بزجرهم عن ذلك ، ورغب في إبقائهن . اهـ

وقال العيني في عمدة القاري :

وفيه [أي في الحديث] أن النفقة على البنات والسعي عليهن من أفضل أعمال البر المنجية من النار. وبوَّب الإمام مسلم في صحيحه بابا بعنوان باب فَضْلِ الإِحْسَانِ إِلَى الْبَنَاتِ. روى فيه عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : « مَنْ عَالَ جَارِيَتَيْنِ حَتَّى تَبْلُغَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَا وَهُوَ » فالإحسان إلى البنات والرضا بهن طريق إلى ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم في الآخرة.

قال الحافظ المناوي في فيض القدير :

دخل مصاحبا لي قريبا مني يعني أن ذلك الفعل مما يقرب فاعله إلى درجة من درجات المصطفى صلى الله عليه وسلم قال ابن عباس : هذا من كرائم الحديث وغرره ا.هـ لذا كان الراجح قرار مجمع الفقه الإسلامي برابطة العالم الإسلامي، وعلى من رزقه الله الإناث أن يصبر وأن يحتسب هذا الصبر عند الله، وليستبشر بما أعده الله في الآخرة جزاء إحسانه للبنات.

الخلاصة:

أن اختيار جنس الجنين عن طريق الطرق الطبيعة لا حرج فيه، وأن اختيار جنس الجنين عن طريق التدخل الطبي اختلف الفقهاء فيها ما بين مجيز لمن غلب على ذريته نوع فطلب جنينا من الجنس الآخر، وانتهى قرار مجمع الفقهي بالمنع، إلا في حالة وجود أمراض وراثية تستلزم التدخل الطبي.

والله أعلم.

--------------------------------------------------------------------------------

[1] برنامج الشريعة والحياة حلقة الهندسة الوراثية وعلم الجينات بتاريخ 21-7-2001م

[2] دراسته التي بعنوان بعنوان: رؤية شرعية لتحديد جنس الجنين.

[3] هي في الأصل رسالة الدكتوراه التي قدِّمها لجامعة أم درمان بالسودان.

[4] دراسته التي بعنوان : حكم تحديد جنس الجنين في الشريعة الإسلامية.

الأحد، 10 أكتوبر 2010

عدالة الصحابة

قال تعالى لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح/18]
وقال سبحانه وتعالى أيضا فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) الأعراف/157
( لَـكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ . أَعَدَّ اللّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) التوبة/88-89
( وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) التوبة/100
( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ) الفتح/29
( لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ . وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) الحشر/8-9
هذه الآيات وغيرها من الآيات والأحاديث الشريفة كلها تدل على شيء واحد، وهو فضل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما بالك بأناس شهد الله لهم في كتابه المهيمن على كل الكتب بأنه قد رضي الله عنهم، أي جيل هذا وأي رجال ونساء حملوا هذا التاج على رؤسهم، إنه الفخر ولا مزيد عليه، وإن كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كالتاج فوق رؤس الخلائق فإن أمهات المؤمنين هم درة هذا التاج وزينته، ومن من أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة وجوب محبة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوقيرهم والترضي عنهم، ومحبة آل بيت النبي هي البراءة من النفاق، وآية حب الأنصار براءة من النفاق أيضا بوب الإمام مسلم بابا في صحيحه بعنوان باب الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ حُبَّ الأَنْصَارِ وَعَلِىٍّ - رضى الله عنهم - مِنَ الإِيمَانِ وَعَلاَمَاتِهِ وَبُغْضَهُمْ مِنْ عَلاَمَاتِ النِّفَاقِ روى فيه بسنده عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَبْرٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسًا قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « آيَةُ الْمُنَافِقِ بُغْضُ الأَنْصَارِ وَآيَةُ الْمُؤْمِنِ حُبُّ الأَنْصَارِ ».
روى الترمذي عن زيد بن أرقم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهم. والحديث صححه الألباني بشواهده، ومنها ما رواه الإمام مسلم في صحيحه عن زيد بن أرقم أنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فينا خطيباً بماء يدعي خما بين مكة والمدينة، فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال: أما بعد ألا أيها الناس، فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وإني تارك فيكم ثقلين، أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به -فحث على كتاب الله ورغب فيه- ثم قال: وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، فقال له حصين: ومن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده، قال: ومن هم؟ قال: هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس، قال: كل هؤلاء حرم الصدقة؟ قال: نعم.

قال المناوي رحمه الله في قوله صلى الله عليه وسلم (عترتي أهل بيتي) قال: يعني إن ائتمرتم بأوامر كتابه، وانتهيتم بنواهيه، واهتديتم بهدي عترتي، واقتديتم بسيرتهم، اهتديتم فلم تضلوا.

قال القرطبي: وهذه الوصية، وهذا التأكيد العظيم يقتضي وجوب احترام أهله، وإبرارهم وتوقيرهم، ومحبتهم، وجوب الفروض المؤكدة التي لا عذر لأحد في التخلف عنها. انتهى


ويدخل في آل البيت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، لقوله تعالى : إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ {الأحزاب:33} قال ابن كثير -رحمه الله-: وهذا نص في دخول أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من أهل البيت ههنا، لأنهن سبب نزول هذه الآية، وسبب النزول داخل فيه قولا واحدا، إما وحده على قول، أو مع غيره على الصحيح.
وقد قال الله تعالى: قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى {الشورى: 23}.
فاللهم إنا نسألك حبك وحب من يحبك وحب نبيك وحب آل بيت نبيك وحب أزواج نبيك وحب أصحاب نبيك وحب أتباع نبيك

السبت، 9 أكتوبر 2010

إفراد السبت بالصيام في شوال


بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
اختلف العلماء في إفراد صوم السبت تطوعا، واختار شيخ الإسلام ابن تيمية ورواية عن أحمد جواز إفراد صوم السبت بصيام التطوع. وعلى هذا فلا حرج على من صام السبت باعتباره من أيام شوال التي وردها في حقها الفضل والأجر. وتفصيل المسألة فيما يأتي:جاء الحثُّ على صيام ستة أيام من شوال في الحديث الذي رواه الإمام مسلم بسنده المتصل عنْ عُمَرَ بْنِ ثَابِتِ بْنِ الْحَارِثِ الْخَزْرَجِىِّ عَنْ أَبِى أَيُّوبَ الأَنْصَارِىِّ - رضى الله عنه - أَنَّهُ حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: « مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ ».
وجمهور العلماء على استحباب صوم هذه الأيام المباركة حتى يتم الأجر ويحصل الفضل.وصوم السبت مع غيره من الأيام كالجمعة قبله أو الأحد بعده جائز بلا كراهة؛ لأنه لم يرد نص بالمنع، أمَّا إفراد السبت بصيام التطوع فإنَّ العلماء اختلفوا في هذه المسألة، ومستند الخلاف الحديث الذي رواه أصحاب السنن وأحمد عن عبدِ الله بن بُسْر المازني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تَصُومُوا يَوْم السَّبْت إلا فيما افتُرِضَ عليكم»والكلام في هذا الحديث ينصب على سنده ومتنه، أما سنده فمحل خلاف بين العلماء، فالإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة كذَّب هذا الحديث، ومن العلماء من ضعفه، ومنهم من قال بنسخه، ومنهم من حسَّن إسناده.

قال العلامة ابن القيم في زاد المعاد:

فقال مالك رحمه الله هذا كذب يريد حديث عبد الله بن بسر ذكره عنه أبو داود، قال الترمذي: هو حديث حسن، وقال أبو داود: هذا الحديث منسوخ، وقال النسائي: هو حديث مضطرب، وقال جماعة من أهل العلم: لا تعارض بينه وبين حديث أم سلمة؛ فإن النهي عن صومه إنما هو إفراده، وعلى ذلك ترجم أبو داود، فقال: باب النهي أن يخص يوم السبت بالصوم وحديث صيامه إنما هو مع يوم الأحد، قالوا: ونظير هذا أنه نهى عن إفراد يوم الجمعة بالصوم إلا أن يصوم يوماً قبله أو يوماً بعده. اهـأما عن متنه، فإن الحديث قد صدِّر بأداة نهي والعلماء على أن النهي هنا ليس للتحريم وإنما نهي للتنزيه،
قال الإمام الطيبي في الكاشف عن حقائق السنن: واتفق الجمهور على أن هذا النهي والنهي عن إفراد الجمعة نهي تنزيه وكراهة لا تحريم. ا.هـ

وقد قسَّم الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله – في مجموع فتاوى ورسائل الشيخ ابن عثيمين " أحوال صيام يوم السبت، وبين حكم كل حالة ـ قال رحمه الله:وليعلم أن صيام يوم السبت له أحوال:الحال الأولى: أن يكون في فرضٍ، كرمضان أَدَاءً، أو قضاءً، وكصيام الكَفَّارَةِ، وبدل هدي التَّمَتُّع، ونحو ذلك؛ فهذا لا بأس به ما لم يخصه بذلك مُعتَقِدًا أن له مزية.الحال الثانية: أن يصوم قبله يوم الجمعة؛ فلا بأس به.الحال الثالثة: أن يُصَادِف صيام أيام مشروعة؛ كأيام البيض، ويوم عرفة، ويوم عاشوراء، وستة أيام من شَوَّال - لمن صام رمضان - وتسع ذي الحجة؛ فلا بأس؛ لأنه لم يصمه لأنه يوم السبت، بل لأنًّه من الأيام التي يُشْرَع صومها.الحال الرابعة: أن يُصادِف عادةً، كعادة من يصوم يومًا وَيُفْطِر يَوْمًا فَيُصَادِف يوم صومِهِ يوم السبت؛ فلا بأس به، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما نهى عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين: «إلا رجلاً كان يصوم صوما فليصمه»، وهذا مثله.الحال الخامسة: أن يَخُصَّهُ بصوم تَطَوُّع؛ فيفرده بالصوم؛ فهذا محل النَّهي إن صَحَّ الحديثُ في النهي عَنْهُ ". انتهى.
أما شيخ الإسلام ابن تيمية ـ قدس الله سره ـ فقد رجَّح عدم كراهة إفراد السبت بالصوم تطوعا، قال في الفتاوى الكبرى:ولا يكره إفراد يوم السبت بالصوم ولا يجوز تخصيص صوم أعياد المشركين ولا صوم يوم الجمعة ولا قيام ليلتها.ا.هـوهذا الرأي أيضا رواية عن أحمد ومستند العلماء حديث أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم يوم السبت والأحد أكثر ما يصوم من الأيام ويقول: إنهما يوما عيد للمشركين فأنا أحب أن أخالفهم ) رواه أحمد وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما.قال الأمير الصنعاني في سبل السلام:وعن أم سلمة رضي الله تعالى عنها، { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أكثر ما يصوم من الأيام يوم السبت، ويوم الأحد، وكان يقول : إنهما يوما عيد للمشركين، وأنا أريد أن أخالفهم } أخرجه النسائي، وصححه ابن خزيمة، وهذا لفظه .

وعن أم سلمة رضي الله عنها { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ما كان يصوم من الأيام يوم السبت ويوم الأحد وكان يقول : إنهما يوما عيد للمشركين وأنا أريد أن أخالفهم } أخرجه النسائي وصححه ابن خزيمة وهذا لفظه فالنهي عن صومه كان أول الأمر حيث كان صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب ثم كان آخر أمره صلى الله عليه وسلم مخالفتهم كما صرح به الحديث نفسه، وقيل : بل النهي كان عن إفراده بالصوم إلا إذا صام ما قبله أو ما بعده .وأخرج الترمذي من حديث عائشة قالت { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من الشهر السبت والأحد والاثنين ومن الشهر الآخر الثلاثاء والأربعاء والخميس } وحديث الكتاب دال على استحباب صوم السبت والأحد مخالفة ؛ لأهل الكتاب وظاهره صوم كل على الانفراد والاجتماع. اهـ


الخلاصة:

الذي نرجحه في هذه المسألة هو جواز إفراد صوم السبت في شهر شوال؛ لأنَّ صيام السبت وافق صيام أيام مشروعة لأنَّ القصد حينئذ هو صيام أيام شوال لا صيام يوم السبت إن صَحَّ الحديثُ في النهي عَنْهُ كما قال ابن عثيمين رحمه الله.
والله أعلم.